فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} أي: أقروا بها، وهي تخلفهم عن الغزو، وإيثار الدعة عليه، والرضا بسوء جوار المنافقين، أي: لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} كالندم وما سبق من طاعتهم {وَآخَرَ سَيِّئًا} كالتخلف عن الجهاد {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي: يقبل توبتهم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه.
تنبيهات:
الأول: أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم، من طريق العوفي عن ابن عباس قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا وأيقنوا بالهلاك وقالوا: نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في الجهاد! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الذي يطلقها، ففعلوا وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته فقال: «من هؤلاء الموثقون بالسواري»؟ فقال رجل: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا، فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم. فقال: «لا أطلقهم، حتى أومر بإطلاقهم»، فأنزل الله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}، فلما نزلت أطلقهم وعذرهم، وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم، لم يذكروا بشيء، وهم الذين قال الله فيهم: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} الآية، فجعل أناس يقولون: هلكوا، إذ لم ينزل عذرهم، وآخرون يقولون: عسى الله أن يتوب عليهم، حتى نزلت: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}.
وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طحلة عن ابن عباس نحوه، وزاد: فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا، فتصدق بها عنا، واستغفر لنا فقال: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا»، فأنزل الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية.
وأخرج هذا القدر وحده عن سعيد بن جبير، والضحاك وزيد بن أسلم وغيرهم. وأخرج عبد عن قتادة أنها نزلت في سبعة: أربعة منهم ربطوا أنفسهم بالسواري، وهم أبو لبابة ومرداس، وأوس بن خذام وثعلبة بن وديعة.
وأخرج أبو الشيخ وابن منده في الصحابة من طريق الثوري، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: كان ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك ستة: أبو لبابة، وأوس بن خذام، وثعلبة بن وديعة، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية.
فجاء أبو لبابة وأوس بن ثعلبة، فربطوا أنفسهم بالسواري، وجاءوا بأموالهم، فقالوا: يا رسول الله! خذ هذا الذي حبسنا عنك، فقال: لا أحلهم حتى يكون قتال، فنزل القرآن: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} الآية، إسناده قوي، كذا في اللباب.
قال ابن كثير: هذه الآية، وإن كانت نزلت في أناس معينين، إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين.
وقد قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقة، ثم نقل ما تقدم.
الثاني: روى البخاري في التفسير في هذه الآية، عن سَمُرة بن جُنْدب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: «أتاني الليلة آتيان، فابتعثاني، فانتهيا إلى مدينة مبنية بلَبِن ذهب، ولَبِن فضة، فتلقانا رجل، شطرٌ من خلفهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا، قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وهذا منزلك.
قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح، فإنهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وتجاوز الله عنهم»
.
الثالث: قال الزمخشري: فإن قلت: قد جعل كل واحد منهما مخلوطًا، فما المخلوط به؟ قلت: كل واحد منهما بالآخر، كقولك: خلطت الماء واللبن، تريد كل واحد منهما بصاحبه، فيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن، لأنك جعلت الماء مخلوطًا، واللبن مخلوطًا به؟ وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطًا بهما، كأنك قلت: خلطت الماء باللبن بالماء.
وناقشه الناصر في الانتصاف فقال: التحقيق في هذا أنك إذا قلت: خلطت الماء باللبن، فالمصرح به في هذا الكلام أن الماء مخلوط، واللبن مخلوط به، والمدول عليه لزومًا، لا تصريحًا، كون الماء مخلوطًا به، واللبن مخلوطًا.
وإذا قلت: خلطت الماء واللبن، فالمصرح به جعل كل واحد منهما مخلوطًا، وأما ما خلط به كل واحد منهما، فغير مصرح به، بل من اللازم أن كل واحد منهما له مخلوط به، يحتمل أن يكون قرينه أو غيره.
فقول الزمخشري: إن قولك:- خلطت الماء واللبن، يفيد ما يفيد مع الباء، وزيادة- ليس كذلك.
فالظاهر في الآية- والله أعلم- أن العدول عن الباء إنما كان لتضمين الخلط معنى العمل، كأنه قيل: عملوا صالحًا وآخر سيئًا، ثم انضاف إلى العمل معنى الخلط، فعبر عنهما معًا به. انتهى.
قال النحرير: يريد الزمخشري أن الواو كالصريح في خلط كلّ بالآخر، بمنزلة ما إذا قلت: خلطت الماء باللبن، وخلطت اللبن بالماء، بخلاف الباء، فإن مدلولها لفظًا إلا خلط الماء مثلًا باللبن، وأما خلط اللبن بالماء، فلو ثبت لم يثبت إلا بطريق الإلتزام ودلالة العقل. انتهى.
وهو متجه ولا حاجة للتضمين المذكور.
ثم قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من قولهم: بعت الشاء شاة ودرهمًا، بمعنى شاة بدرهم، أي: فالواو بمعنى الباء، ونقل ذلك سيبويه.
وقالوا: إنه استعارة، لأن الباء للإلصاق، والواو للجمع، وهما من واد واحد. وقال ابن الحاجب في قولهم المذكور: أصله شاة بدرهم، أي: كل شاة بدرهم، وهو بدل من الشاة، أي: مع درهم، ثم كثر فأبدلوا من باء المصاحبة واوًا، فوجب نصبه وإعرابه بإعراب ما قبله، كقولهم: كل رجل وضيعته.
قال الشهاب: وهو تكلف، ولذا قالوا: إنه تفسير معنى، لا إعراب. انتهى.
قال الواحدي: العرب تقول: خلطت الماء باللبن، وخلطت الماء واللبن، كما تقول: جمعت زيدًا وعمرًا. والواو في الآية أحسن من الباء، لأنه أريد معنى الجمع، لا حقيقة الخلط، ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيئ، كما يختلط الماء باللبن، لكن قد يجمع بينهما. انتهى.
وفي الآية نوع من البديع يسمى الإحتباك، هو مشهور، لأن المعنى: خلطوا عملًا صالحًا بسيِّئ وآخر سيئًا بصالح.
الرابع: قال الرازي: هاهنا سؤال، وهو أن كلمة عسى شك، هو في حق الله تعالى محال. وجوابه من وجوه:
الأول: قال المفسرون: كلمة عسى من الله واجب، والدليل عليه قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ}، وفعل ذلك، وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، والسلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئًا، فإنه لا يجيب إليه إلا على سبيل الترجي مع كلمة عسى، أو لعل تنبيهًا على أنه ليس لأحد أن يلزمني شيئًا، وأن يكلفني بشيء، بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضل والتطوّل، فذكر كلمة عسى، الفائدة فيه هذا المعنى، مع أنه يفيد القطع بالإجابة.
الوجه الثاني: أن المقصود بيان أنه يجب أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق، لأنه أبعد من الإتكال والإهمال.
الخامس: قال القاشاني: الإعتراف بالذنب هو إبقاء نور الإستعداد، ولين الشكيمة، وعدم رسوخ ملكة الذنب فيه، لأنه ملك الرجوع والتوبة، ودليل رؤية قبح الذنب التي لا تكون إلا بنور البصيرة، وانفتاح عين القلب، إذ لو ارتكمت الظلمة ورسخت الرذيلة، ما استقبحه، ولم يره ذنبًا، بل رآه فعلًا حسنًا، لمناسبته لحاله، فإذا عرف أنه ذنب ففيه خير. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}
الأظهر أن جملة: {وءاخرون اعترفوا} عطف على جملة: {وممن حولكم} [التوبة: 101]، أي وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة آخرون أذْنبوا بالتخلف فاعترفوا {اعترفوا بذنوبهم} بذنوبهم بالتقصير.
فقوله: إيجاز لأنه يدل على أنهم أذنبوا واعترفوا بذنوبهم ولم يكونوا منافقين لأن التعبير بالذنوب بصيغة الجمع يقتضي أنها أعمال سيئة في حالة الإيمان، وكذلك التعبير عن ارتكاب الذنوب بخلط العمل الصالح بالسيّئ.
وكان من هؤلاء جماعة منهم الجِد بن قيس، وكردم، وأرس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام، ومرداس، وأبو قيس، وأبو لُبابة في عشرة نفر اعترفوا بذنبهم في التخلف عن غزوة تبوك وتابوا إلى الله وربطوا أنفسهم في سوارى المسجد النبوي أيامًا حتى نزلت هذه الآية في توبة الله عليهم.
والاعتراف: افتعال من عَرف.
وهو للمبالغة في المعرفة، ولذلك صار بمعنى الإقرار بالشيء وترك إنكاره، فالاعتراف بالذنب كناية عن التوبة منه، لأن الإقرار بالذنب الفائت إنما يكون عند الندم والعزم على عدم العود إليه، ولا يُتصور فيه الإقلاع الذي هو من أركان التوبة لأنه ذنب مضى، ولكن يشترط فيه العزم على أن لا يعود.
وخلطهم العمل الصالح والسيّئ هو خلطهم حسنات أعمالهم بسيئات التخلف عن الغزو وعدم الإنفاق على الجيش.
وقوله: {خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا} جاء ذكر الشيئين المختلطين بالعطف بالواو على اعتبار استوائهما في وقوع فعل الخلط عليهما.
ويقال: خلط كذا بكذا على اعتبار أحد الشيئين المختلطين متلابسين بالخلط، والتركيبان متساويان في المعنى، ولكن العطف بالواو أوضح وأحسن فهو أفصح.
وعسى: فعل رجاء.
وهي من كلام الله تعالى المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم فهي كناية عن وقوع المرجو، وأن الله قد تاب عليهم؛ ولكن ذكر فعل الرجاء يستتبع معنى اختيار المتكلم في وقوع الشيء وعدم وقوعه.
ومعنى: {أن يتوب عليهم} أي يقبل توبتهم، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} في سورة البقرة (37).
وجملة: {إن الله غفور رحيم} تذييل مناسب للمقام. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)}
وقول الحق: {وَآخَرُونَ} معطوفة على قوله: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق}، فهل يظلون جميعًا على النفاق، أم أن منهم من يثوب إلى رشده؛ ليجد أن موقفه مخز حتى أمام نفسه؟ لأن أول ما ينحط المنافق إنما ينحظ أمام نفسه؛ لأنه نافق ولم يقدر على المواجهة، واعتبر نفسه دون من يواجهه؛ فيحتقر نفسه، ولابد أن منهم من يأنف من هذا الموقف، ويرغب في حسم المسألة: إما أن يؤمن وإما أن يكفر، ثم يرجح الإيمان، ويتخلص من النفاق؛ بأن يعترف بذنوبه.
وبذلك يصبح ممن يقول الحق عنهم: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} أي: ممن لم يُصرّوا على النفاق، واعترفوا بذنوبهم، والاعتراف لون من الإقرار. والإقرار بالذنب أنواع، فهناك من يقر بالذنب إفاقة، وآخر يقر الذنب في صفاقة، مثلما تقول لواحد: هل ضربت فلانًا؟ فيقول: نعم ضربته، أي أنه اعترف بذنبه، وقد يضيف: وسأضرب من يدافع عنه أيضًا، وهذا اعتراف فيه صفاقة.
أما من يعترف اعتراف إفاقة، فهو يقر بأنه ارتكب الذنب ويطلب الصفح عنه، وهذا هو الاعتراف المقبول عند الله. وهم قد {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} اعتراف إفاقة، بدليل أن الله قال فيهم: {خَلَطُواْ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} وعملهم الصالح هنا هو إقرارهم بالذنب ومعرفتهم أن فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، أما عملهم السيء فهو التخلف عن الجهاد والإنفاق.
واعترافهم هذا هو اعتراف الإفاقة، واختلف العلماء: هل هذا الاعتراف يعتبر توبة أم لا؟